top of page
  • Writer's pictureSoh aim

الحِرف سعادة .

في أحد أيام أُغسطس الحارة جداً، حيث لا صوت يعلو على أصوات المكيفات إلا أصوات مولدات الكهرباء حين انقطاع التيار الكهربائي، جمعتني دردشة عابرة بأحد العاملين في أحد مخابز المدينة، كان المخبز أشبه بغرفة من غرف الجحيم بينما كان الناس في الخارج، إما في سيارة مكيفة أو جالسٌ تحت مكيف في بيته، أخرج ذلك العامل الطيب رأسه من فتحة باب المخبز وقال لي في آخر الحديث الذي جرى بيننا، قال بلغة بسيطة (ما معناه):

"أنا سعيد جداً بالحياة، الحرارة التي يشعر بها الناس، أنا متصالح ومتفاهم معها، حرفتي تأخذ انتباهي عن الانزعاج من الحر.."


على جانبِ آخر من البحر الأبيض المتوسط، وخلال قرنٍ سابق، قال ألبير كامو (كاتب وفيلسوف فرنسي) : "إن كنت تبحث عن معنى للحياة، فاصنعه. الحياة عبثية وبلا معنى-إلا ما نصنعه فيها من معنى." ما سبق، تلخيصٌ حاد لفلسفة (كامو) بخصوص فكرة العبثية، وهو شرح للطرح وليس نقلاً حرفياً لكلام الكاتب!




حاول ألا تصطدم مع هذه الفكرة عبر وضعها مباشرة في مناطحة مع إيمانك أو أفكارك (المتفائلة خوفاً) واعتبر أن الإحساس -العابر أحياناً والثقيل أحيان أخرى، عن وضعك في الحياة، إحساسك أن حياتك ليست على الشكل الذي تريده، أو ما نسميه بالملل والرتابة -رغم كل زيادة أو تجديد- حين تصبح الحياة أشبه بوجبة كبيرة من (الكوسة) المطبوخة في ماء فقط دون ملح، هذا الإحساس المزعج الذي يأتي على فترات ونوبات، يكافحه كلٌ على طريقته، البعض بالاستغراق في الطقوس الدينية ورد الأمر إلى شأن ديني، آخرون ينخرطون في أمور أكثر تطرفاً كلٌ حسب إمكانياته والفرص المتاحة أمامه لمد حبال المبالغة، لكن حتى حين نعالج ذلك القلق، بطريقتنا الخاصة، نعود لنقابله مرةً أخرى في نوبة جديدة من القلق والإحساس بضياع وتشتت المعنى والهدف في حياتنا.


ألا تشعر بهذا؟ أم تراك تركضُ من شاغلٍ لآخر، كي لا تجمعك سِنَةُ التأمل بهذا الألم؟


تجد شخصاً ما، يتمرغ في النعيم والرفاه المادي، يملك أسرة جميلة، ويعيش أجواءً وأحوالاً هادئة، لكنه يعاني من هجمات الاكتئاب والضجر تلك، هؤلاء بمن فيهم (متدينون، وغير متدينين، أصحاب مؤهلات عليا، وما دون ذلك) كلهم وكل إنسان، لابد وأن يمر بتلك الأحوال، البعض يتحاشى تلك الأحاسيس بالاستغراق الدائم والمتصل في المشاغل التي غالباً ما تكون أشبه بالركض في (عجلة الهامستر) تلك الأحاسيس ومشاعر القلق، تسمى (قلق وجودي) وهو استمرار الذات في طرح سؤالها على صاحبها، عن معنى ومغزى الحياة، رغم كل الإجابات المعلبة (الدينية) و (الكليشيهاتية) لكنه سؤال دائم ومتكرر..

النوبة تأتي على هيأة أسئلة، كل عقل يطرح على صاحبه سؤالاً يتماشى مع لغة وثقافة صاحبه: (باهي، وآخرتها؟ شنو درت؟ وين بنوصلوا؟ وين ماشي؟....إلخ)


أحد النتائج العملية لعملية البحث عن جواب ينهي هذا القلق، ويحول الحياة إلى رغبة في رؤية الغد بدل النظر إلى الساعة في انتظار انقضاء اليوم الحاضر، جواب يأتي متسقاً مع طرح (ألبير كامو) وما يفعله الخباز الذي حدثتكم عنه في أول المقال، جواب صار الناس يجرونه في كل مكان لإيقاف نوبات الألم الوجودي ذاك، والجواب عن سؤال (معنى الوجود وغايته) يأتي عبر صنع وخلق المعنى، وكي لا نسهب في شرح (خلق المعنى) فإنه مجرد الخلق أو الصنع، إن الخباز الذي يعتني بالدقيق ويعجنه باهتمام وحب واستغراق في المهنة، ثم يطرحه في الفرن ويقدمه إلى المستهلك، يخلق ويصنع (معنى للحياة) من خلال حرفته، كذلك هو النجار والحداد والمزارع والخياط والطباخ والنحات والرسام، وصاحب كل حرفة ومهنة يجاوز بين اهتمام نفسي وداخلي بشأن ما، وتعلم إنجازه وتحويل الإحساس الداخلي بالرغبة في (الخلق والصنع) إلى مُنتج ونتيجة ما.


الكآبة العابرة للمكاتب والقصور والردهات الفخمة والصوامع والقاعات وأركان البيوت الفارهة، لا توجد ولا تنبت في المُحترفات الصغيرة، في الورش، في المخابز، في المزارع، في مشاغل الخياطة، في غرف الرسم والنحت، على طاولات المصممين، وكلِ الشغوفين بِحرفهم، لأن هؤلاء يصنعون معانٍ للحياة بواسطة الصناعة والخلق، يُخرجون الرغبات الملتهبة في دواخلهم، عبر إعمال أيديهم على غرض ما، يحولونه من لا شيء، إلى قطعة ذات معنى، يصنعون معنى للحياة عبر صنع المعنى بتلك الطريقة.


3 views0 comments

Comments


Post: Blog2 Post
bottom of page