top of page
  • Writer's pictureSoh aim

الوقفة بالجمعة.




هكذا بدأت الفاجعة.

لم أكن أدري أن (جمعة) يعني ما يقوله، لا أحد في ( سوق الحشيش ) كان يصدق

بأنه يقوى على ذلك.

جمعة الضاحك أبداً، جمعة الطيب الهادئ الطباع، جمعة البكاء حين تروى له مأساة

حتى خيالية، هل يستطيع مثل هذا الانسان أن يقف بإصرار على جمرة نار من أجل

حرق اللحم الميت (الكاللو) في أسفل قدمه !

صحيح أنه بدأ يعرج في مشيته أخيرا بشكل يدعو إلى السخرية حتى قال عنه ( الوشكة ):

. (عمرك رأيت "فروج أعرج" ؟).

صحيح أنه جرب كل العقاقير دون جدوى، لكن أن يدعو الأمر إلى الوقوف على

جمرة نار ملتهبة -ومن جمعة بالذات - فذلك ما لا يمكن تصديقه.

قال له عوض القصاب:

۔ ( أيها المناني المعتوه، سوف تفقد قدمك ).

لكنه لم يأبه.

قال له رجب ( مؤجر الدراجات ):

- ( ستبقى تضحك برجل واحدة ) !!

اطلق من فمه صوتا يشبه الشخير، ثم طفق يرقص برجل واحدة .

59

__________________________________________________

قلت له

- ( سأحملك إلى الدكتور بروزدوشمو).

لوح لى قائلا:

-(حين يراني معك سيعرف أن العلاج بالدين)!

! وضحك، كعادته ، ضحكة هزت - كما يقولون - باب العرش.

أعزرته دائماً.

كنت أناكده من حين إلى آخر، لكنه كان يُفشل كل حماقاتي بضحكاته، كان يقول لي مهدداً:

(حجتك بالجمعة)!

كثيرون يقولون هذا حين يزمعون تهديدك، أعرف أن الوقفة حين تتوافق مع يوم الجمعة

تكون- كما يقولون- مباركة لدى الحجيج. لكن جمعة، حين يود إيهامك بمعاقبته لك، يقول لك:

- (حجتك بالجمعة)

قلت له ذات مرة

- (تعني " الوقفة" بالجمعة ).

أصر قائلا:

- (لا، حجتك بالجمعة )

كان يعتقد أنني أريد إبعاد العقاب عني!!


60

_______________________________________________



كان بنام مند أول وهلة حين تطفأ الأضواء في دار الخيالة، وکنا حین نذهب سوية إلى

هناك نتحايل عليه بأن نشترى له كيساً من ( الزريعة) المملحة حتى يكون مستيقظا

ولكن ما إن ينهي آخر بذرة من ذلك الكيس حتى بلوى رأسه جانبا، ويبدإ في الشخير.

قلت له مرة، حين خرجنا من الدار:

(أعترف لك بأني نمت بعد أن سرق البطل خزينة المصرف).

قال لى على الفور:

(أی بطل؟)

كان يشتغل عاملا فنيا في مصلحة الأشغال العامة، وكان مستعداً دائماً لأن يصلح

أيما شيء في أى بيت في ( سوق الحشيش ) دون مقابل بالطبع. كهرباء، مجارٍ

مواسير مياه.

حين نشكره بعدئذ، پلوی جسده على أحد الجانبين مثل هلال، ويفرقع ضحكة صاخبة

قائلا:

- (الوقفة بالجمعة).

حينذاك لايعني تهديدا، إنه يعني بالضبط أن جمعة هو الوحيد الذي يستطيع أن

يفعل ذلك !


61

_____________________________________________


قال له عمر صاحب دكان البقالة :

- ( يا جمعة، يا أهبل، خذ الجمرة معك، وقف عليها في المستشفى ).

قال ( القماطی )، صاحب الدكان الآخر:

- ( ستوقعنا في البحث عن " تاکسی" و الله أعلم من سيندفع أجرها )

لوي جمعة جسده جانبا، وأطلق ضحكته المعتادة ، قائلاً:

- ( الوقفة بالجمعة )

سأله ( الحاج رشید ) المتجهم الوجه أبدا :

- ( متى ستفعل ذلك ؟ ) .

أجاب جمعة :

- (غداً، الجمعة ) .

قال الحاج رشید :

- ( دعوه هذا عبد ممتلئ بالعناد ) .

كنا جميعا هناك، حتى ( ابريك ) الذى كان يلوح نصف سکران ، استيقظ

وجاء إلى جمعة.

نظر إلى كانون النار في صمت، وأخرج منه جمرة متقدة تحاشى أن ينظر

إلينا جمع مقدمة قميصه، وكورها، ودسها في فمه، ثم ثبت قدمه فوق الجمرة

مصعدا صرخة مدوية ملتهبة تمس كيانك رغماً منك مثل صعقة كهرباء.



62

_____________________________________________


_____________________________________________



كانت عيناه مشرعتين إلى آخرهما مثل الجحيم، غامرئین بالفزع !

كان في وسعك أن تشم رائحة اللحم المحترق، وأن تری دخانه إلى حد يدعو إلى

التقيؤ. كان في إمكانك أن ترى الوجوه المندهشة المصابة بالذهول حول تلك القدم.

سقط جمعة مغمورة بالعرق . . مغشيا عليه.

بعد قليل فتح عينيه، رسم ابتسامة باهتة على شفتيه، ثم استغرق في نوم خدر!

ذات يوم أعلن جمعة أنه قرر الانتقال من ( سوق الحشيش ) إلى شارع آخر في

أحد الأحياء النائية.

کان ثمة خلافات مع أخيه الكبير وزوجته، لم يكن الأمر كذلك قبل أن يتزوج

جمعة، وتصبح له حزمة من الأطفال قال عوض الجزار ناصحاً:

- ( يا منانی، لن يستطيع أحد غيرنا احتمال ضحكاتك المجنونة).

قال جمعة :

( خرف. إنني أضحك حتى في جهنم ) !

- (حسنا)

65

____________________________________________


قال (حميد) الذي يعرف الكثير عن صيد السمك، ملوحاً بسبابته تجاه جمعة :

- ( أيها الفروج الأحمق، اسمع . الفراريج لا تترك موطنها.. لاتترك مكانها أبدا

إنها لا تهاجر مثل الأسماك الصائعة الأخرى، حتى وأن علقت بشص، فهی "تحجر"

. . اعنی تهرب داخل كهفها إلى أن تقطع الصنارة، فمالك أنت والرحيل ؟)

ضحك جمعة قائلا :

- ( تقول عني "فروج" حسناً، أقول لك إن الأسماك لا تسبح للخلف. لا تعود إلى

الوراء، وأنا اتخذت قراری، ولن أعود عنه أبداً... خرّف ) !

امتعض رجب - مؤجر الدراجات . وقال منفعلا:

۔ ( تفو. ستندم )

- (لا. عيب) .

قال ابريك ، مفرقعا اللبان، ماسحا حذاءه في سرواله.

واصل جمعة ضحكته قائلا :

- ( الوقفة بالجمعة )

ذات يوم انتصب عوض القصاب أمامنا في دكان الدراجات. حك خصيتيه كعادته

وقال:


66

_______________________________________________



(ألم تلاحظوا أن المناني لم يعد يأتي إلى سوق الحشيش؟) .

- (فعلا) .

أجاب الجميع في صوت واحد تقريبا.

قال ( ارحيمة الكذاب ) :

(سمعت اليوم أن ابنه قد بتر ساعده)

تطلع الجميع في وجوه بعضهم البعض، بدا واضحا أن أحد لم يصدقه، لكن ارحيمة

أقسم كالعادة بترية أبيه، وأضاف:

( ضربه العبد لأمر ما، صفع الطفل ( بطبلة الهندي ) تلك حتي أوقعه على زجاج

البوابة ، وتهشمت ذراعه . .)! !

لم يكن يكذب هذه المرة.

وحين ذهبنا جميعاً إلى جمعة وجدناه مخلوقاً آخر، كان منهدماً تماما ومطفأ . كان

مثل غيمة سوداء تذرع سماوات الله في وحدة كاملة.

اطرق قليلاً، ثم انهمر فجأة في بكاء حارق، زافرا مابين عبراته :

(یرینی ساعده المبتور ، ويقول لي : "هذا كله منك ").

حين تشعل عود ثقاب، باحثا، عبر الظلمة، عن شيء ما رافعاً العود بين إصبعيك

..متطلعاً، ثم تحتضر شعلة العود ، وتحرق اصبعيك، عندئذ تزعق، تنفض

العود من يدك.


67

____________________________________________

حينذاك، ينسيك الألم ما كنت تبحث عنه!

ولعل هذا ما حدث لجمعة بالضبط.

لقد ذهب إلى العمل في (الأشغال العامة) مساء يوم الجمعة.

لم يكن هناك أحد سواه.

كان ثمة رافعة صدئة، خربة، مهجورة في الفناء، ولقد اعتلاها جمعة بحيث يتهيأ

لك أنه يريد اصلاحها، لكنه تسلق ذراعها وربط حبلا في مقدمته، ثم أوثق طرف

الحبل الأخر في عنقه، وتأكد من العقدتين ملياً، ثم رمی جسده من هناك!

انتفض مرتين ثم سكن.

كان يلوح هنالك في عتمة الغروب مثل فروج قد علق بالصنارة ، وناضل طويلاً

. . ثم همد.

كان واقفاً في الهواء مثل شبح، وكانت الشمس الغاربة تغمر المكان بضياء میت.



فبراير/1988



68


______________________________________________

14 views0 comments

Recent Posts

See All

Commentaires


Post: Blog2 Post
bottom of page