طين البحر
- Soh aim
- Oct 20, 2020
- 6 min read

(أ)
اندلقت بقعة الشمس من النافدة في الصباح الباكر، وارتمت على السرير.
غمر الضوء وجه ( سي على ) ففتح عينا واحدة، وتطلع بها إلى النافذة العارية من الستائر
ثم إلى مواشير الضوء الوافدة تجاهه، وتأكد له –عندئذ- أنه تأخر عن عمله.
إنه يعرف هذا تمام حين تصل بقعة الشمس إلى طرف السرير عند قدميه ، لقد تأخر اليوم..
ربما لأنه لم ينم ليلة البارحة جيداُ.
أقر لنفسه قائلا:
- ( لقد عاودتني تلك المهازل) !
وشد انتباه ه طنين ذبابة قد وقعت للتو في أشراك نسيج العنكبوت المعشش في الزاوية، قرب
السقف!
رفع بصره .. وتملاه طويلا، ثم لوى عنقه شطر الكرسي ، حذاء السرير ، وفتح المذياع
الصغير فوقه، فانبعث صوت المرتل :
. (الم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)...
أصاخ السمع، ثم انفرجت أساريره فجاة حين تذكر بأن اليوم : جمعة
39
___________________________________________________
أجال بصره في الغرفة التي لا تحتوی سوى سرير، وكرسي، وخزانة صغيرة للملابس، وحوض
صغير تحت الحنفية، ثم ظلع تجاه النافذة، وأنشأ يراقب المارة هناك.
كان ساهماً، إلى أن خطرت على الرصيف المقابل امرأة سامقة ذات جورب شفاف، فانتزعت
بصره، حتى إذا ابتعدت قليلا، اقترب من النافذة أكثر، ثم دفع رأسه خلفها کی لا تغيب عن عينيه
وشيعها إلى أن احتواها انحناء الشارع.
عاد يعرج متحاملا، وتهالك على السرير، رانيا إلى بيت العنكبوت عند السقف.
(ل)
كان موظف الاستعلامات في الفندق يقول للموظف الجديد :
- ( هذا كل ما هنالك )
عندما مر بهما ( سي على) محيياً، متوكئاً على عکازه... تم توقف والتفت إليه كمن نسى شيئا ما
...واستفسر:
- (ألم يسأل عنى أحد؟)
40
____________________________________________________

____________________________________________________
أسبل موظف الاستعلامات جفنيه في نفاد صبر، وقال:
- (لا).
ثم لاحق ( سي على ) بنظره إلى أن غادر الفندق وحينئذ قال للموظف الجديد :
- (يسكن هنا منذ سبعة أشهر .. يعمل کساعي بريد، وهو لا يكف عن السؤال يوميا عما إذا
سأل عنه أحد، أو جاءته رسالة ما... معتوه ) !
- (تعني لم يراسله أحد؟ )
- ( أبدأ )
- ( مخلوق غريب ) !
قال موظف الاستعلامات :
- ( قصته أغرب ).
وعندما لاحظ عيني الموظف الجديد المشرعتين في اهتمام ، جذب نفسا عميقا من لفافته، وقال :
-( إنه أحد العائدين من المهجر، كان يسكن في "حي المهاجرين مع زوجته ، ويقال انه كان
بحارا في شبابه.. )
- وأين زوجته ؟)
43
_________________________________________________
سعل بافتعال، وهمس :
- ( يقال -استغفر الله العظيم - انه رأها أول مرة ترقص في أحد الأعراس ذات ليلة في
" مرسى مطروح" شغف بها إلى حد الهوس ... تزوجها ثم سكن بذلك الحي بعد عودته
...ولكن المشكلة . استغفر الله - بدأت بعد ذلك ..)
- (مشكلة ! أية مشكلة؟ ) .
غطس موظف الاستعلامات رأسه ، وقال :
( رآها تخرج من البيت في أحد الأيام قالت له إنها ذاهبة إلى السوق، تطلع إلى ساقيها
في افتنان، ولاحظ أن جورب ساقها اليمنی به خرق صغير ولكن حين عادت كان الخرق
في الساق اليسرى ... استغفر الله العظيم ).
قال الموظف الجديد مبهوراً :
- ( فضيحة ).
( و )
جلس (سي على ) على شاطئ البحر القريب من الفندق، واستطاب النسمات المنعشة هناك
خلع حذاءه كعادته، وشمر سرواله، وإذ وضع قدميه في الماء عبرت خاطره كل المرافئ
44
________________________________________________
التي رآها من قبل، كل المرافئ والوجوه، وهم بأن يسأل نفسه:
- (لماذا لا يراسلني أحد؟)...
ولكنه رأی حلزون قريبا منه فالتقطه، نظر إلى قوقعته اللامعة، دحرجه بين اصبعيه
وأسر إليه :
- ( أنا مثلك تماما، إنني أحمل بيتي فوق كتفى أينما أذهب ) !
ولعل ذلك قد لاقي هوى لديه، فقد أسلم وجهه مغمض العينين لمسرى الريح الخافتة ..،
وبدأ يحدث نفسه بصوت مسموع ؛
- (البيت هو البحر بالضبط، هو البحر، فبمجرد أن تضع قدميك في مياهه، وتشعر
بطريقة ما، أن أحدا آخر يضع قدميه أيضا في الطرف الآخر، تشعر بالرحيل بالاتصال
بالناس إنني أصافحهم الآن بقدمي، أنا لا أبرح مكاني .. إني ، فقط ، أرنو إلى ضفة
الشاطئ، أنظر إلى النوارس السابحة في السماء، والجاثمة على الصخور الناتئة، إلى
الأصداف الملقاة على الرمل الندى، وبريق الحصى الملون إلى الناس الذين يعتقدون
أنهم يقضون – فحسب- وقتا جيدا. إنهم لا يعرفون أي فردوس أمامهم.
45
_______________________________________________
أنا وحدي أعرف ذلك.
أنا الوحيد الذي يرسم حدود النوارس والشفق والريح والأمواج، وحتى التموجات
الصغيرة التي تلعق رمال الشاطئ!
لماذا!
لأنني أنا البحر، أجل أنا البحر)!
(عفواً هل لديك كبريت؟)
انتفض (سي على) لصوت صياد السمك الذي أقعى بجانبه.
ناوله علبة كبريته، متلعثماً من المفاجأة، فاعتذر الصياد قائلاً:
- (سقطت علبتي في الماء ).
ثم أردف فيما كان يشعل لفافته :
- ( أراك دائماً هنا. يبدو أنك تسكن في ذلك الفندق)
قال الصياد متذكراً :
- ( آه سكنتُ مرة هناك. لن افعلها ثانية أبدأ..)
تلقف (سي على) فرصة الحديث وسأل:
46
________________________________________________
( لماذا ؟ ماذا حدث ؟)
قال الصياد ببساطة:
- (کنت سكران ، ولم أجد سيارة أجرة آخر الليل، فقررت أن أنام هناك. . في الفندق
طلبت سريراً، ولكني اكتشفت أن بالغرفة ثلاثة آخرين، كان شخيرهم مثل صوت
(كسارة) قالت لى السكرة إنهم سيصحون حيل أنام، ويسرقون ساعتی ونقودي، أيقظتهم
قلت لهم إني أجرت الغرفة، وأن عليهم أن يغادروها فورا، تذمزوا خرج واحد منهم
ويبدو أنه أبلغ الموظف هناك، إذ أنه رجع بعد ذلك ومعه ثلاثة من رجال الشرطة ..
اقتادوني إلى المركز، لكننی -تلك الليلة- نمت في غرفة لوحدي.
لم يعقب (سي على ) بشيء، لكنه أغرق قدميه عميقاً في البحر، واتصل بالآخرين!
( ط )
عاد بعگازه إلى الفندق، وكالعادة توقف عند "الاستعلامات" وسأل :
- ( رسائل ؟)
47
______________________________________________
- (لا.. هل نسيت؟ اليوم عطلة)
- ( آ...أقصد: هل سأل عني أحد؟)
أجاب الموظف بنفاد صبر:
- (لا. لا أحد).
احتوته الغرفة...
فتح المذياع، فانطلق صوت يولول: (أين ضاع الذين قتلوا في رمال سيناء؟ من أجل
من ماتوا؟) هب على الفور وأطفأ المذياع مزمجراً:
- (ملعون أبُ السياسة)
وحين خلع حذاءه ، مزمعاً أن يغفو قليلا، تسمر بصره عليه، لقد تذكر فجأة زوجته.
رماه تحت الحوض... واتبعه بنظره .
لقد بدا كل شيء أمام عينيه وشرع يحدث نفسه:
( كنت تسلم برقية ذلك اليوم في الحي نفسه الذي تسکنه، ورأيت بعدئذ أن تعرج على
بيتك لاحتساء بعض الشای وما إن من دخلت البيت، حتى سمعت حركة مريبة، ثم
رأيت أحداً يهرب من النافذة تاركا حذاءه خلفه، ارتعبت زوجتك تكورت مثل أرنب مذعور.
48
_________________________________________________

________________________________________________
لم تقل لها شيئاً. لم تفعل أيما شيء، سوى أنك فكرت كثيراً، ثم التقطت الحذاء وعقدت
خيوطه بخيط المصباح الكهربائي في وسط الغرفة، وأخذت تهزه من حين إلى آخر
بعكازك حتى يظل يتأرجح من جهة إلى أخرى أمام عينيها المفزوعتين.
لقد بدوت كما لو أنك قد فقدت صوابك، لكنك كنت هادئ تماما كمن يسير في نومه !
تواصل ذلك عدة أيام.
وذات ليلة، فيما كانت زوجتك تحاول أن تنام، رأيت أن الحذاء قد همد. وعندئذ تناولت
العكاز وضربته به حتى ظلت ظلاله تلطم كل الجدران.
التهمت زوجتك دوامة الظلال، شعرت انها مربوطة بها من شعرها، فشرعت تصرخ
بملء رئتيها . . ثم اندفعت شبه عارية خارج البيت، هاربة، معولة عبر الشارع.
قال الجيران :
" أصيبت بالجنون "
- ( أتذكر ذلك أتذكر ؟)
نفض ( سي على) رأسه، وأشاح وجهه جانبا، فالتقت عيناه بحقيبة البريد الملقاة بجانب
خزانة الملابس، ثبت بصره عليها طويلا ثم استلقی على السرير متطلعا إلى عش العنكبوت.
51
_____________________________________________
(ن)
وشيك المساء، عرج على المطعم المجاور، وحين خرج من هناك، كان -كدأبه دائماً-
يحمل كيساً من كسر الخبز، متجها إلى الشاطئ - عند ( الكورنيش )- کی يطعم الأسماك.
- (هاأنذا جئت بالعشاء )
قال في ذات نفسه، رانيا إلى البحر.
وحين هبطت الشمس، كان يری عبر الشفق الأحمر، والعتمة القادمة وهو يرمي كسر
الخبز على امتداد الشاطيء.. إلى أن أسند العكاز جانباً، وجلس في مكانه المعتاد
مدلياً ساقيه في الماء.
كان الجو رائقا.
ولقد شعر بصفاء لاحد له، فيما كانت عيناه تطالعان الأفق البعيد الغور.
لم يكن يعرف كم من الزمن مر عليه هناك، لم يكن ثمة صوت.
52
_____________________________________________
ولکنه شعر - على نحو ما- بأن ثمة ريحاً ما تحمله إلى أعلى، شعر بأنه يسری...
يصعد في الهواء عاليا. . عاليا، بینما قدماه لم تبرحا الماء، عالياً حتى أصبح في
إمكانه أن يرى صفحة البحر مثل مرآة....مرآة حقيقية مرصعة بالنجوم، وأن بری
قرص الشمس التي غطست منذ زمن خلف الطرف الآخر من البحر.
أحس أنه يهفو هناك بسلاسة وانسياق مثل سحابة، وأنه كان مغتبطاً للغاية، لقد غمره
نقاء مذهل وابتهاج، ود أن يبوح للآخرين بذلك، إذ كان يتهيأ له أن أحدا يناديه من
قاع الأرض
- (ياعلى ) !
حرك قدميه في الماء، فانبعثت الدوائر المتموجة على السطح حتى طمست النجوم.
اخفض رأسه في تنهيدة طويلة، شاعراً أنه قد بدأ يبرد، وقال لنفسه:
- ( لقد تأخرت)
ولم يعد أمامه سوى أن يعود إلى الفندق.
مر بموظف الاستعلامات، وتطلع إليه متسائلا، فهز ذلك رأسه.
53
_____________________________________________
. وحين دلف إلى الغرفة علق عكازه بجناح السرير خالعاً حذاءه بقدميه.
ثبت بصره على حقيبة البريد ملياً.
كان في عينيه شيء غريب .. متماوج.
ضلع نحو الحقيبة .. تناولها، واقتعد طرف السرير، وأنشأت أصابعه تعربد في
جوفها خلل الرسائل.
هتف صوت في ذات نفسه:
. لكنه كان قد دلق غمر الحقيبة على السرير، وطفق يقرأ - بادئ الأمر- عناوين
الرسائل ..، ثم أخذ يفضها .
- (عليك اللعنة لقد جننت)
أسند ظهره على جناح السرير، وأنشأ يقرأ أولى الرسائل بعينين مثل تنورين:
- (يا معتوه . مستودع السجن )
- (لا يهم)
قال محدثاً نفسه.
- (سأجد من أحكي معه هناك)!
ثم لاح غير قادر على سماع أيما شيء آخر، فيا تناثرت الأوراق عبر الغرفة
54
___________________________________________
التي غمرتها سحابات الدخان ..... ورائحة العرق.
تقادم الليل.
وغرف الشارع في سكون موحش، وأطفئت كل الأنوار في غرف الفندق
غير غرفة ( سي علي ) التي ظلت تتوهج في وجه العتمة...
مثل قنديل مثل قندیل تماماً !
2/9/1988
55
__________________________________________
Comments