top of page
  • Writer's pictureSoh aim

رؤيا أيام الملل




ليس ثمة ماهو أروع من أن يسير المرء تحت المطر، فذلك يمنحك إحساسا واعياً بذاتك، إذ تظل تعانق

نفسك بلا انقطاع عبر بريق الطريق، محاولاً حبس بقية الدفء في أعماقك، وفيما ينهمر الماء فوق

رأسك وتتساقط قطراته من ذقنك وأنفك وأذنيك، وتتحدر على عنقك ، تشعر أن الله قد غسل قلبك على

نحو ما، ومسح كل خطاياك ويغمرك الصفاء!

تخف حدة المطر، ويصبح أكثر نعومة، عندئذ تشعر بأن ثمة أشياء طيبة تتمسح بداخلك على نحو ودی

كما يستخفك انتعاش مذهل إلى حد يجعلك قادراً على السير إلى أقصی العالم... - ((... بحثاً عن علاج لالتهاب الرئتين!!))

هكذا كان يعقب الأصدقاء...

ولكن ذلك لم يطمس ابتهاجي بالمطر قط، فالمرء لا يستطيع أن يخنق أمانيه في أن يشاهد إشراق

الشمس الفوسفوری، عقب انقطاع المطر، وانعتاق الصحو الفضي بعدئذ.. أنا أحس أنها تشرق من أجلى، لأننى خوضت عبر کل الغدران والبرك. ولكنك لن تشعر بذلك إطلاقا

.حين تكون قابعاً في كهف ما مثلما يفعل صدیقی الآن.



27


_______________________________________________________



كان منهمکاً في كتابة مقال، بينما ظل المطر يصفع زجاج النافذة باتصال في صباح أحد أيام ديسمبر

ويلوح أنه لم تعترضه أية صعوبة، إذ سرعان ما أنجز أربع صفحات في أقل من ساعة ولا أدرى لماذا

ذكرني بالرجال الذين ساروا في جنازة بغلة القاضي في العصر العثماني، ثم لم يعقرهم ضميرهم

عندما دفن القاضي بعدئذ بدون أن يرافق أحد جنازته الهزيلة!!

كان صديقاً قديماً.. قديماً جداً .. وكان أعور، قصيراً ممتلئاً مثل لفتة، ولقد تربينا معاً في زقاق واحد

وارتكبنا آلاف الحماقات سوياً، وتعلمنا كثيراً من الأشياء الجيدة والرديئة على السواء، وإن كانت

الأشياء الجيدة قليلة جدا بحيث يصعب على المرء أن يتذكرها على الفور.

-((دعنا نخرج الآن دعنا تخرج))

هكذا قلت له.

- ((ماذا! ألا ترى المطر؟)).

- ((حسناً، إنه لن يقتلك !))

-(( لم أقل ذلك، ولكنی أيضا مازلت أكتب))

- ((الملل هنا يطفئ نبضی)).



28


_____________________________________________________


_____________________________________________________



وتطلعت إلى الجدار، وإلى المسامير المثبتة فيه إلى نصفها، ربما كانت في السابق تحمل صورة ما

والتقويم القديم الذي ظل معلقا هناك منذ عدة سنوات... فيما تعالى سعال والده العجوز من الداخل

وطافت بذهني حزمة ذكريات عتيقة، وعلى الأخص ذلك البيت الذي كانوا يسكنونه في الزقاق...


كان جدار إحدى غرفه مكتظاً بالصور المغبرة لمعارك آب زید الهلالى، وعنتره وصورة أخرى

ذات إطار خشبی عريض لقتال سيدنا علي بن أبي طالب مع عمرو بن ود العامري.

إن ذلك يلوح لي الآن كلى الوضوح.

ولقد أخبرني الوالد العجوز ذات مرة أن العامری بترت ساقه في تلك المعركة فرماها عل خيمة قريبة

وقتلت هناك ثلاثة أشخاص !!

وكان ثمة أيضا صورة لعبلة وهي ترقب معركة لعنترة من خلال هودجها

... وأيضا السفيرة عزيزة ..!

كانت كل الزوايا، وشقوق ألواح السقف، والحفر التي في الجدران مغطاة بأعشاش العناكب ..



31


_______________________________________________________



وكان في أقصى الحجرة نول ثقيل الأعمدة به خيوط عباءة لم تنسج قط، وبضعة مغازل، ونتف صوف

وفي الجانب الأخر((سدة)) خشبية ذات أدراج متآكلة، ينام في أعلاها صديقى مع إخوته الخمسة

بينما استعمل الطابق السفلى للتخزين، وكان به زیر القديد ذو الفوهة المسودة اللزجة، وصندوق كبير

يحوي شرائح اللحم المتيبسة، وأكياس الدقيق، ودنان الشحم، ونبات الزعتر، وسله البيض ... واشياء

كثيرة أخرى، على حين تناثرت کسر الخبز المخضرة خلال المكان المترب، وعشرات الفئران !!

كان على جدار حجرة الوالد بساط بنفسجي مرسوم عليه وعل ضخم الجثة يحمل غابة قرون فوق رأسه

وعرشت فوق ساحة البيت، كرمة عنب بُنية الأوراق على الدوام، فيما أقعي في الجهة الشرقية التنور

المتشقق، وقفص الدجاج المفتوح مثل البئر على نحو موصول، فإذا أردت الخروج من البيت فسيكون

في وسعك أن تشتم الروائح الصادرة من مربط الحمارة عند باب البيت المقوس الثقيل، تلك الحمارة اللعينة

كادت ان تقتلني ذات يوم عندما حاولت ان احلب منها مقدار قدح ۔ کما أمرتني والدة صديقي لتسقيه لطفلها



32


__________________________________________________________



الصغير الذي تمزق جوفه، وبح صوته من اثر السعال الديكي.. لقد ركلتني في صدري حتى اختنقت أنفاسي

وتيبس الصراخ على شفتي.. كان علاجاً غريباً...

وقد وفقت الوالدة في ملء القدح بنفسها في اليوم التالى ولكن الطفل بدا مزرقا تماما، ثم مات بعد ذلك مباشرة !

ولعل الحمارة قد دمرها الحزن بعدئذ، إذ أصبحت مثل أي عاهرة محترفة .. وكان أولاد الشارع يعرفون ذلك

جيدا! من يستطيع أن ينسى ذلك ؟ لا أحد .. لا أحد على الإطلاق !

- ((هل تسمع طرقا على الباب ؟)).

هكذا سألني صديقي، ثم واصل:

- ((لا.. لاتفتح اتركه يستمتع بالمطر)) !

وطفق يطوى أوراقه.

- (( دعنا تخرج من هذه العلبة دعنا نخرج الآن))!

ونظرت إلى التقويم الملتصق بالجدار، وصورة الفتاة التي يحملها.

وقال صديقي:

-(( أنا أخشى المطر .. ثم إني سأكتب قصة جديدة)) !



33


___________________________________________________________



وتطلعت إلى عروق المطر فوق الزجاج، قائلا:

- (( سأحاول ألا آتيك مرة ثانية)) !

- ((إن القلق يغضن جبينك، على أی حال، سأروي لك موضوع قصتي إنها مجرد حكاية حدثت في سالف

العصور ..))

- ((أنا لا أشعر بالميل لذلك))

هكذا قلت مغمض العينين.

- ولكن اسمعها أولا .. حسنا، كان ثمة سلطان قد أعلن أنه سيزوج ابنته لمن يسرد له قصة لاتنتهى أبداً

ولكن القصص في كل الحالات تتوقف أخيرا عند حافة ما....أنت تعرف ذلك، فكان سياف السلطان ينزع

رؤوس الرواة الذين تنعقف ألسنتهم، وتتصلب آخر الأمر من تدفق الأكاذيب مثل القرون، إلى أن أقبل ذلك

الشاعر ذات يوم، وشرع يحکی قصته:

كان هناك مخزن معبأ بالحبوب، أكثر اتساعا من بغداد ألف مرة، وكان بأسفله ثقب صغير; صغير جداً،

إلى حد أن احداً لم يره قط، ولقد ولجت نملة إلى الداخل وخرجت تدحرج حبة قمح .. ثم دخلت نملة أخرى



34


__________________________________________________________



وخرجت تدحرج حبة قمح .. ثم دخلت نملة أخرى وخرجت تدحرج حبة قمح وقد أنفق ذلك الشاعر عامين

كاملين يكرر تلك الجملة إلى أن تسوس قلب السلطان وأخذ يصرخ كل يوم في وجهه قائلا :

عليك اللعنة ، قل إن النمال الملعونة افرغت كل المخزن!

(( ولكن، معذرة، أنت الذي تكون قد أنهيت القصة عندئذ، ولست أنا)) !

ثم يستأنف :

- ((ودخلت نملة أخرى وخرجت تدحرج حبة قمح ، ثم دخلت نملة أخرى....)

- ((يكفى هذا... أنت وقصصك سواء)) !

هكذا قلت معلقا بصرى بالمسامير المثبتة في الجدار، وتذكرت صورة ذلك الوعل.

- ((ولكنك لم تسمع بقية القصة . .))!

- لتتعفن أنت وقصصك هنا.... أنا أريد أن أخرج !

كان المطر قد كف عن التهطال، إلا أن الشمس لم تشرق بعد .. وشرعت أعبر الشارع

وسط الترع فيما كان الجوع يأكل أعماقي ..



35


_______________________________________________



ولقد بدا الأفق شاحباً تماماً، والسماء رمادية على نحو مكتئب .. ليس ثمة صوت . وليس

ثمة أيضا طائر واحد على مرمى البصر... على حين ظلت رائحة السجائر التي كان

يدخنها الأعور عالقة بي، وسرت مقرورا وجائعاً تماما عبر الأوحال ووحشة الطريق

وكانت نظراتي المرتعشة تبحث عن حانة صغيرة !!








6/1/1968





36

12 views0 comments

Recent Posts

See All

Comments


Post: Blog2 Post
bottom of page