top of page
  • Writer's pictureSoh aim

عبر كل الأبعاد

Updated: Oct 19, 2020




کانت باخرة مهيبة ...

ولقد ظلت تعبر البحر بجلال متکابر، فيما استغرق المسافرون في انشاد أغنية فخمة على السطح

عبر الريح الشمالية الواهنة . .

کنت متكئاً على سريرى في (العمبر) السفلي المكتظ بالأسرة ، والصيادين المتجهين إلى مالطا

والسکاری، والعجائز، وظل بامكاني، رغم الضوضاء، أن استل بعض خيوط الأغنية

وان اتخيل صقور البحر تذرع سماء يوليو بكبرياء حقيقي، وأن انسي بطريقة ما كيف اخذت

مدينتنا تذوب في عيني بعد إقلاعنا على نحو ضبابي !

ولكن العجوز القابع في السرير المقابل، كان قد اخرج رغيفين وزجاجة نبيذ متلفعة بالقش

وشرع ينقر على أحد الصحون، ويقيء أغنية إيطالية بصوت متهدج جدا، فيما احتدم نقاش

حاد بين المقامرين المتحلقين في أقصى العمبر...

ولقد نهضت على الفور، وارتقيت ذلك السلم المتعب إلى السطح وجلست في المؤخرة تماما

على حزمة من الحبال، متطلعاً إلى الأفق المتد على مدى البصر، ثم إلى زبد البحر المترامی

خلف الباخرة على الجانبين مثل جناحی نورس هائل..



۔ 13-


__________________________________________________



وطفقت أحلم بروما ورسومات ميكائيل انجلو في سقف کنيسة سيستين، وتمثال (بيتا) المحزن!

كنت أشعر بانعتاق مذهل..

وانا لا أدري کم مكثت على وجه الضبط ولكن ما إن غرقت الشمس في طرف البحر، و اندثرت

المرئيات في الظلام والسكون، وبدت صالة البار، مثل قنديل حتی شعرت بالصقيع ينخر عظامي

ورجعت مباشرة إلى السرير..

كان العنبر غارقا في سحابات الدخان ورائحة التبغ الرخيص، فيما أصاب أحد السودانين الدوار

وظل يقيئ على قدميه..ولقد أحسست باستياء مقيت فأغمضت عيني وتذكرت فجأة علاقة الراعی

بالنای فى تلك الخرافة العتيقة... وطاف بخاطري أيضاً صديقى مفتاح :

كان قد خرج مع بعض الأصدقاء في رحلة قصيرة إلى اللثامة، في إحدى عطلات يونيو الماضي..

أنا أذكر ذلك تماما ...

وحين نشروا خيمتهم خلف هضبة رملية، وتجمعوا حول المائدة الصغيرة ذات الزجاجات وشرائح

اللحم .. مرق مثل سهم إلى الشاطئ. . ثم خلع كل ملابسه، واندفع عريان إلى البحر.



- 14-


________________________________________________



ولقد ظل بعدئذ يعدو على الرمال بلا انقطاع مثل جواد بری، بينما كان جسده يعكس

اشعاعات القمر، ثم شرع يقفز كدلفين مبتهج ويصيح، ويصعد إلى التلال الرملية

ويتدحرج من هناك ويصيح وينثر دراعيه في الهواء ويحتض شيئا ما . . !

- ((هكذا تكون الرحلة)) . كذلك كان يهتف، إلى أن سقط من الأعياء.

أنا أذكر ذلك تماما ..

وأذكر أيضا أن الأصدقاء اتهموه بالجنون في اليوم التالي وبصقوا في عينيه كلمات

مغمضة، ولكنه تقبل كل هذا بنبل، وحدثهم بعفوية عن شيء يتمزق في أعماقه باتصال

مثل صوت انكسار الصاري في وجه الريح..

(( مثل الصوت الذي يحدث في أذنيك عندما تغطس إلى قاع سحيق في البحر ))..

هكذا قال...

وإن هذا يدفعه أحيانا إلى أن يتمنى لو يمزق جلدة، ويذرع دروب العالم حافي القدمين

متخطيا كل الفخاخ على طول الطريق، متطلعا بصفاء إلى زرقة سماوات الله . . والبحار.



15


_________________________________________________



.. ثم أخذ يبكي في صمت!

- ((هل تتناول كأساً معي؟))

كذلك قال لي العجوز المقابل متودداً..

* ((لا...لا، شكراً .. أنا أريد أن أصعد))

ولكني لم أصعد قط !

كان عجوزاً زرياً مهترئاً، مرمد العينين، ولقد ظل مرآه يطمس في ذهني سقف كنيسة سيستين

بطريقة غامضة!

وعلى أية حال ، فأنا لم أصعد قط وهذا أمر مؤسف للغاية!

كان ذلك منذ سنوات.

وإني لأشعر بحزن متثاقل مثل ريشة مترعة بقطرات المطر، وأحس أيضا أنني ممتلىء بالعار

إذ لم أعد أذكر الآن سوى الحانات الوضيعة المعتمة المستلقية عبر الليل على أرصفة الشوارع

الجانبية كالعاهرات .... والنظرات الشرهة لبائعی الصور الخريفية للمرأة والف عجوز آخر.

فمإذا أريد الآن في القاهرة ؟

لقد قضيت شهرين هنا .. أليس كذلك ؟ »

هكذا سالتني صديقي فيما كنا نعبر شارع فؤاد..



16


__________________________________________________



- (( أجل ، تقريباً))

- ((ولكنك لم تزر بوفيه مصر شارع عماد الدين. ..))

-(( حسناً ، أنا شاهدت كثيرا من الأماكن ولكنى أنسى أسماءها ببساطة )).

-(( هذا اسم حانة صغيرة دافئة سترتادها الليلة مارايك ؟))

.. وتطلعت باستغراق كامل إلى إحدى الفتيات أمام مكتبة دار القلم .. كانت شقراء كاللهب

ذات شعر مسترسل، وعينين زرقاوين طافحتين بالود وهتف صديقي :

- ((رائعة .. آه.. رائعة!))

- هذه (هيلينا) وأنت تحتاج إلى حصان خشبی بالغ الضخامة، لتخترق من أجلها الأسوار

هل تفهم ؟

وتقلص جبينه قليلا، ثم قال باصرار هادئ، مغمض العينين : -

العالم كله يقوم على الخداع بشكل ما

- ((حسنا ، أنا لست كذلك !)).

- أنت مجرد قطرة في النهر الكبير.... ليس غير، ولكن ليقبل الطوفان ! .. ونفض يده إلى

أعلى .. ثم أعقب :



17


_______________________________________________



- هذه هي الحانة .

.. وولجنا إلى الداخل، كانت حانة رديئة إلى حد مقزز ...

وكان الرجال الأفاقون متهالكين في أرجائها على المقاعد ذات الصرير، والموائد الخشبية

القديمة عبر أدخنة الشواء والحشيش، ورائحة (الزبيب) الحادة والمرحاض الموارب

فيما ظل الشحاذون وبائعوا (الجمبرى والسميط) يطوفون هناك على نحو موصول.

كانت القطط تحوم عند أقدام الرواد..

وثمة أيضا، على أحد الأرفف، إناء ماء من الزجاج على شكل اسطواني ... كان في

وسعی أن أراه بوضوح، وأن أرى كذلك تلك السمكة الأرجوانية تدور فيه بطريقة يائسة

وفقاعات الماء التي تخبو في السطح...

ولقد لاحظ صدیقی مدی تعلقي بالسمكة فقال :

- ((لقد اصفر لونها.. اعتقد أنها تموت ببطء ..))

ولكنني لم أرد عليه بل طفقت أنظر إليها بتركيز شديد شاعر بالقهر، ولعل هذا ارتسم

على وجهي ففاجأني :

- ((لماذا تعقد حاجبيك هكذا؟)).


- 18-


________________________________________________



-((أشعر أن قلبی مزروع بالشوك مثل قنفذ. . مثل قنفذ!))

-(( فقط تناول كأساً، وستنسى أن لك قلباً على الإطلاق !))

ثم قذف حبة فول في فمه بعدما دلق كأسه في جوفه .. وركل قطة بجانبة، وواصل :

وهذه هي الطريقة المثلى .

۔(( آه، ليس ثمة طريقة ليس ثمة طريقة))

. هكذا قلت متطلعا إلى الإناء!

وفي أثناء ذلك وفد علينا شحاذ عجیب، كان نحيلا مفرط الطول ذا لحية كثة مغبرة

وعينين وديعتين .. وكان يرتدي جلبابا واسعاً، وحذاء ممزقاً .. وبيده مسبحة ومبخرة عطرة

.. فيما كان عكازه الهرم معلقا على كتفه، كان رجلا وقوراً ولقد شعرت بالإجلال حياله

إذ كان لا يأتلی يتلو آیات قرآنية بحنان، غير أن صديقي طرده بكلمات مفجعة کافرة ..

ولكن الرجل لم يلح انه فقد اتزانه، بل لم يغضب إطلاقاً...



19


_________________________________________________


وانسحب في سلام وهدوء مردداً:

- ((ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء، فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)) .

.. وأصدر صدیقی صوتا وقحا على الفور فيما انعقدت أهدابي بالإناء . . .

كانت رغرغة الماء عبر انتفاضات السمكة تملأ قلبي مثل نبض واجف، ثم شعرت ببريق

الزجاجات على الأرفف يخبو في عيني خلف حبات العرق المنحدرة فيهما . . والدخان...

وظل شيء ما يتحفز . . يتوثب في صدري، بينما طمست أمامی الأشكال على نحو ما ..

ولقد نهضت فورا واندفعت خارج الحانة.

كان الرجل الوقور لايزال يعبر الرصيف غارقا في شذى مبخرته . . فاقتربت منه قليلا:

- معذرة ، سیدی ، .. ولكن ماذا قلت ؟

هكذا سألته..

- لا شيء. . لا شيء أنا مجرد شحاذ !!!

ثم واصل السير، والتلاوة بوقار کامل..

((... ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه ...)



20


________________________________________________




______________________________________________



وغاب في عتمات أخری.

كان قد حدث شجار حاد في الحانة، وتحطمت كل المرایا... وكثير من الزجاجات هناك

،ولقد آثرت أن أرجع إلى البيت كان الجو رطباً فشعرت بالانتعاش، و بشيء، يدغدغ أعماقي

وتذكرت فجأة، الزبد المترامی خلف الباخرة مثل جناحی نورس هائل، وسقف کنیسة سيستين

متوقعا في أية لحظة أن ينهمر المطر !

كنت أسير وحدي وكانت أصداء موسيقى (زوربا) تنساب من كان ما.


1967 / 12 / 2




23


17 views0 comments

Recent Posts

See All

Komentáře


Post: Blog2 Post
bottom of page