top of page
  • Writer's pictureSoh aim

بورويلة - قصة من فصل واحد.


- صوت داخلى :

((مات فلم تحزن عليه قطرة من المطر

ولا تجهمت أوچه حفنة من البشر..

و لا أطل ذات لیل فوق قبره القمر

ولا تلوت دودة كسلي ..

ولا انشق حجر •))!

- صورة خلفية:

لا أحد يدري من أين تأتي هذه الحلكة، ثم تهب الريح، وتصاب الغيمات بالذعر، تحبل، تفرقع البروق،

عندئذ يتهم المطر.

تنبثق الشمس.

تعكس النباتات ضوءها الألاق، وتسرح المخلوقات في أرض الله .

تملأ الطواويس المكان، تشرئب أعناقها في وجه اسلاك الضوء بعيون نصف مغلقة، تهز تيجانها فوق

رؤوسها، ثم تنشر أذنابها الثرية بألف لون، وتذرع الساحة بخيلاء لا مثيل له.

هناك...

فوق ذرى الجبال، على بعد پسر من مملكة الشمس، تحلق النسور الذهبية تھوم، تسف صوب الوادي،

تسمو من جديد، وتبدو معلقة في الأعالي دون حراك، ناشرة أجنحتها الى اقصى مدى، ودون حراك،

کما لو أنها معقودة بشعاعات الشمس !!

71


_______________________________________________________


(1)

پرش النادل الماء أمام المقهي عقب الريح المتربة، يحرص ان يتفادى أقدام الرواد الجالسين هناك

يترنم باغنية قديمة، يُصفر، محييا بعض المارة بين حين وآخر، ثم يدلف بجردله الى الداخل.

- يناديه الاستاذ:

- (قهوة اخرى، لقد صدع راسي) مشيراً إلى الطالب الذي يجالسه .

- (من عینی)

يقول النادل.

لكن الطالب بدفع رأسه تجاه الأستاذ متسائلا:

- (ألا ترى ذلك؟ ألا ترى ذلك؟)

ينفض الأستاذ يده في نفاد صبر، يصمت قليلا تم يقول :

- (حسنا، حتى وان كنتَ أعسر، اعنى أشول، فأنت تصافح الناس بيدك اليمني )

يصيح المقاول،نصف سگران:

- (سأغمر هذا المقهي بخرسانة مسلحة ذات يوم ..

- این قهوتی ؟

- (من عینی )


72

_______________________________________________


يفرك الموظف الذي يدعى (المدير) ، عينيه، يتثاءب، يفرك عينيه مرة أخرى، يمسح

المكان بنظرة متلكئة قائلا:

- (ما هذه الجلبة؟).

لا يرد عليه أحد، لکنه یکسر أذنه بسبابته کي يسمع ما يقوله الطالب في الطاولة المجاورة.

- (دعنا من ذلك الآن..)

يقول الطالب .

۔( دعنا من ذلك الآن، ولكن قل لي : كيف تستخرج الفعل المضارع من (المعجم) ؟

يتطلع الأستاذ إلى الجانبين يبتسم في ثقة . . ويجيب :

- (ذلك أمر سهل : عليك - فقط - أن تعيد المضارع الى المصدر الماضي، أعني الجذر!

- (قلت خرسانة مسلحة)

يدلق النادل الفنجانين في حوض الماء مغمغماً:

(يا حول الله).

73

_______________________________________________



(2)

( جاء کم بورويلة .. بورويلة العظيم)

يهتف أحد رواد المقهى أمام المدخل.

يرفع ( إمام المحلة ) نصفه فوق كرسيه ، ويدلی پراسه خارجا لكي يتحقق من رؤية

بورويلة.

يُرى قادماً من أقصى الشارع:

نفس السترة القصيرة الزرقاء المطرزة برؤوس النمور نفس الحذاء الطويل العنق،

الجلدي، المنقوش الذي لا ينقصه سوى المهماز، نفس الملامح الصارمة نفس المشية

الواثقة والذراعين النافرين مثل أحد رعاة البقر.

يحييه المارة بجذل.

يرد بلكنة أمريكية:

های رافعا نصف ذراعه.

يقول ( إمام المحلة ) دون أن يسحب رأسه:

74


______________________________________________




_____________________________________________________


." إن عمله في الصحراء في معسكرات التنقيب عن النفط قد أطار رأسه ". لا يسمعه أحد.

يتعثر النادل في قدم أحد الرواد، وينكفئ كوب الشای بين يديه، يعتذر بأدب جم.. ويتمتم:

"يا حول الله "

(3)

يجلس بورويلة وسط احتفاء الآخرين به، يتحلقون حوله، يبتسم لهم يأتونه بمشروبه المفضل

يشعلون لفافته، ويتطلعون في عينيه بشره.

يعرفون أنه سيختلق لهم بطولة جديدة.

يشير صاحب المقهى إلى قبضة بورويلة المتكومة فوق الطاولة ، قائلا :

(تبدو متورمة قليلا)

يهز رأسه بكبرياء:

" أجل أجل كنت هناك ليلة البارحة "

أين؟


77

_________________________________________________


تتساءل الرؤوس المتحلقة.

" في ملهى ( ريفييرا ) "

يقول بورويله ببساطة، ويسكت. كان عليهم أن خمنوا وحدهم ما يضمره لكن الجميع يطالبونه

بأن يحکی.

يصيح المقاول:

- (أعطه مشروبا آخر )

وفيما يحضر النادل المشروب، يسترسل في حكايته عن الملهى الليلي:

پری بورويلة ( يونس ) هناك، حارس المدخل، الجلف العملاق.

يبتسم في وجه بورويلة، ويقول:

" أهلا تفضل"

يهم بالدخول دون تذكرة كعادته، لكنه يرى وجهاً مالوفاً متسمراً عند المدخل دون أن يسمح

له بالدخول.

يصر بورويلة أن يدخله

يصير الحارس ألا يدخل.

يسقط يونس الجلف أرضا على إثر لكمة يسارية من بورويلة وحين ينتهى

78


________________________________________________

برنامج السهرة ، ويرحل كل السكارى، يكون الحارس لايزال ملقى على الأرض في غيبوبة

كاملة.

يصفق رواد المقهى، يهنفون بحياته، يرفعون قبضته إلى أعلى.

وفيما يرى الرائي، يبصر النادل طاووساً، ضخماً يملأ المكان، هازاً تاجه فوق رأسه، ناشراً

ذنبه مثل الطاق، يصعد نظره صوب السقف، ويغمغم بشيء ما !!

(4)

تهب ريح ( القبلى ).

تكنس أمامها كل الأتربة، وقصاصات الورق، تحدث دوامات مغبرة عبر الساحة، تهز أشجار

الكافور على جانبی الطريق، تنزع عنها أدرانها القديمة وتغمرها بتراب جديد.

يخفض المارة رؤوسهم، ويرفعون أذرعتهم لاتقاء ( القبلى ) بعيون نصف مغلقة، تتكالب الريح .

ينتشل الرواد كراسيهم من على الرصيف ، ويلجون المقهى.

يقول صاحب مستودع غسيل السيارات في تذمر :

"لا تستطيع تفادي هذي الريح، إنها تنفذ حتى العظام"


79


__________________________________________________


يرد ( المدير) :

- " فلتحلم بالشتاء إذن "

- "أجل..."

يقول الأستاذ :

- " أجل، بالترع، والمجارى الطافحة".

ثم يعقب :

- " تجري من تحتها الأنهار !"

وحين لا يثير تعليقه أحد، يخرج قلمه ويشرع في شرح كيفية استخراج الفعل المضارع

من المعجم لنفس ذلك الطالب.

في الزاوية، يتحلق بعض الشباب حول بورويلة، يستمعون إلى حكايته عن رجلى

( البوليس ) اللذين تشاجر معهما ذات ليلة، وكيف انتزع دراجة أحدهما ولوح بها مهدداً

حتي آثرا الفرار !

يهلل الجميع. لكن (إمام المحلة) يبدو منشغلا مع الشاب الوسيم الذى يجالسه، يسقيه مشروبا مثلجا

آخر، ويسوى جلسته لکی تلامس ركبته ساق الشاب، ثم يواصل الهمس مرة اخرى .

80


________________________________________________



__________________________________________________


يضرب النادل كفاً بكف، فيما يهم بحمل الزجاجات الفارغة ... على حين يتبادل صاحب

المقهى والمقاول النظرات.

(5 )

يشاهد ( الحاج معابيص ) قادما على دراجته من أقصى الميدان، ناشرا ذراعيه إلى أعلى

كما لو أنه صلیب، محافظاً على توازنه، غامراً الناس بلعناته وبصاقه.

عجوز نشيط، ذقته الأشيب غير حليق أحيانا، لباسه ناصع البياض، عيناه حادتان، يقال

إنه يحفظ جل القرآن، يقال إنه صوفي، يقال إنه مجنون، لكنه فظ في كثير من الأحيان.

يوقف دراجته أمام المقهي، يقفز من فوقها في حركة بهلوانية، ثم يرتاد المقهى ، صائحا :

- " صمٌ، بكمٌ، عمىٌ، فهم لا يعقلون "

متفرسا في الجميع بعيني ديك مستشار، ثم يهتف:

.- "لا غالب إلا الله ياحاج "

- "خير يا حاج"

يقول صاحب المقهى:

83


__________________________________________________


- " تفضل، تشرب شيئا بارداً؟"

"لا، أنا أشرب الأوراد ...لا غير"

يجوس داخل المقهى ملياً، يبصق، يرتل:

- "يضيق صدري، ولا ينطلق لسانی"

يُسر (إمام المحلة) إلى جليسه :

- " الجنون فنون"

يسمعه ( الحاج ) يقف عند رأسه، بهزه من كتفه قائلاً:

- "لحيتك تذكرني بمخلوق آخر " !

يقهقه ثم يضيف :

- " تعرف؟ نصف هذا الشعب مجانين"

يتساءل ( إمام المحلة ) في حذق:

" والنصف الآخر؟"

يقول الحاج :

" معابيص، مثلك أنت " !

يضحك النادل حتى تهتز كتفاه، وتغرورق عيناه بالدموع.

84


__________________________________________________


(6)

ضجيج، زعيق، هتاف.

المظاهرات تذرع المدينة عقب حرب 67 م، الحشود تحطم المحال، تحرق العربات.

يلتهب الصيف، تُذرَّى المناشير في كل مكان، وتنتشر الدعوى للإضرابات. يزداد الجو

اختناقاً، يُعتقل الكثير من الرجال، ويعلن حظر التجول.

يقبض على بورويلة في طريقه إلى بيته بعد الوقت المحدد لحظر التجول . يودع غرفة

التوقيف في ( المركز ) يلتقى هناك مع جماعات المناشير، والإضرابات، وبعض رجال

النقابات.

يغمره الجذل، يهز تاجه، يلتقط رأس الخيط، ويشرع في الحديث عما تفعله الحكومة

بأمثاله !

يعري عن صدره، يشمر كمي قميصه . . يهز القضبان، پدور حول نفسه مثل ضبع

جريح، يلعن دين الوقت.

يلتزم الآخرون الصمت. يتطلعون إليه عبر العتمة، دون تعليق، دون حراك !

يتهالك.

ولكن لا يكف عن الكلام.

يصمت الآخرون، لا تعليق.. ودون حراك!

يتسامر الحراس في الركن - خارج بوابة التوقيف- ويرتشفون أكواب الشاي


85

__________________________________________________


فيما يغمر المكان صوت اصطفاق الأجنحة ! !

(7)

يفرج عن بورويلة في صباح اليوم التالى . يفرج عنه وحده .

يجوب الطرقات ممتلئة زهواً، مفعماً بالخيلاء، يحكي لكل من يقابله عن اعتقاله.

يتغير مسار حياته منذ ذلك اليوم :

لا تعود تهمة البطولات السابقة، لا دوريات البوليس الليلية، لا ( يونس ) لا الملاكم

( جقرم ) ولا حتى عنتر بن شداد.

إنه الآن يجلس في المقهى بلباسه الجديد، البدلة الرمادية، ورباط العنق، والحذاء الأسود

اللماع.

يحضر له النادل، كالعادة، فنجانه وكوب الماء، يظل ساهماً.

يردد له أغنية قديمة . يتظاهر بالتفكير . يضع ساقا فوق أخرى ساهما، لا يزال .

ولكن حين يجالسه أحد، يبدأ في تحسين شاربه المشذب بعناية متطلعاً بحذر إلى كل

من يعبر باب المقهى.


86


__________________________________________________


ثم يشرع في الحديث عن الكلاب التي تتعقب خطواته باتصال، وتتنصت عليه من أجل ارائه

ضد الحكومة، وانجراف الشباب إليه!

(8)

موسم الانتخابات على الأبواب.

تعلق اللافتات، والملصقات ... ترفع الشعارات المعتادة، يدعى الناس إلى المآدب، يتفقد بعضهم بعضاً.

.. ويوعز إلى بورويلة أن يرشح نفسه أيضا لمجلس الأمة !

الكل يتضافر على اقناعه . الكل بوحي له بان الجميع معه.

" أنت ممثل الشباب" يؤكد له ( المدير )

- " لاتهتم بالدعم المادي"

يقول المقاول، ويربت على كتفه.

ينهض ( إمام المحلة ) قائلا :

- " دع أمر القبيلة لى"

يلتفت بورويلة بشرود.

يقول صاحب المقهى :

87


__________________________________________________


" سيحملك الشباب على أكتافهم، ويطوفون بك شوارع المدينة من يستطيع أن يقف أمامك؟"

يركب الجميع أحصنة من جهنم.

يقف بورويلة بينهم مثل رمح، ويعلن موافقته على ترشيح نفسه عن الدائرة.

يصفق الحضور، يصفق الحضور، يتواصل اللغط.

يترك النادل مكانه يقف عند المقهى متأوهاً :

" يا حول الله "

(9 )

ينتشر الخير في المدينة، يطغي على كل الحكايا، يصل إلى خارج حدود البلد، يتطوع

الجميع بالنفخ في البالون، ترد برقيات التأييد لبرويلة من الداخل والخارج، وباسماء

وهمية عدة :

منظمات، جمعيات، أحزاب، وزراء، رؤساء.

يتم تسجيل بورويلة رسمياً كمرشح.

تتظاهر وفود بالتفاوض معه کی يتنازل لقاء أي شيء يطلبه.

يرفض بشدة

تتوعده جموع أخرى كي يتنازل عن ترشيحه.

يرفض بشدة.


88


__________________________________________________


يتربص به البعض في محاولة وهمية لاغتياله.

ولكن لا جدوى بورويلة وجد ليبقى، وليرفع رأس الشباب.

ترد إليه نسخة من صحيفة ال (تايمز )، وعلى رأس صفحتها الأولى عنوان بالخط العريض :

"بورويلة يرشح نفسه"

وهي حيلة مطبعية ينفذها دكان في حي ( بيكاديللى ) بلندن مقابل بضعة قروش.

يقرأها، يسوي رباط عنقه، يترجمها للرواد بصوت عال، يطلعهم عليها.

يصيح المقاول :

حتی الإنجليز؟ تصور؟ حتى الانجليز؟

يزداد اللغط.

يبتسم بورويلة في زهو، ينتصب واقفا، يزرر سترة البدلة، يتلمس إبطه بعناية، موهماً

الآخرين أن لديه مسدسا هناك.

يطوي الجريدة، مغادرا، کی پریها لكل الناس.

يتهادى (الحاج معابيص) على دراجته أمام المقهى، حافظاً توازنه برفع ذراعيه، ملجلجاً

بكلام غير مفهوم.

89



__________________________________________________

(10)

يُهزم بورويلة!

يطعن في شرعية ترشيحه، ويشطب اسمه من القائمة.

تهب ريح (القبلي) من جديد.

تهتز أشجار الكافور عبر المدينة، غامرة الجو بالتراب والغبار ....

يلفح القيظ الوجوه.

يطأطئ الناس رؤوسهم في وجه الريح، لكن ( معابيص)يمرق بدراجته مجنحاً مرة على

اليمين، مرة على اليسار، مردداً :

- "لا غالب إلا الله"

يوقف دراجته أمام الجنازة القادمة من أقصى الشارع، يعبر المشيعون .. يخرج رواد

المقهى، يسألون عن الميت.

يبقى بورويلة وحيدا في المقهى، منطفئاً، ذاوياً ممتلئاً حيرة.

يجلب له النادل فنجان القهوة : لا يرفع بصره. يحاكيه:

لا يرد، يفرغ صبر النادل قائلا:

- " يا حول الله"

90

__________________________________________________


(11)

تنتهي اللعبة!!

يجلس بورويلة في بيته بمفرده، منذ وفاة أمه لم يعد ثمة من يشارکه سکناه. يقعي وحيداً

يقلب الصور، يقرأ البرقيات، يتصفح الجرائد، يرمي كل ذلك جانباً، ويسمِّر بصره على

صرصار عند عتبة الدار، مقلوب على ظهره. يتطلع إلى قوائم الصرصار المتحركة

بيأس في كل اتجاه.

يشيح بصره.

يستلقي على السرير، يعدل قدميه وساعديه کی يتخذ وضعاً مريحاً في رقدته لكنه

يموت في ذات اللحظة.

يمر اليوم الأول على وفاته .. لا أحد پدری.

اليوم الثاني، كذلك.

اليوم الثالث، تقرض الجرذان أصابعه، وتتسرب رائحة موته إلى الشارع.

تعبير الجنازة الهزيلة شوارع بنغازی.

يُرى النادل أمام بوابة المقبرة باكياً، يُشاهد (الحاج) متكوماً هناك أيضا.

91

__________________________________________________


باكياً....نافضاً سوائل أنفه، ماسحاً دموعه بکم قميصه، متنهدا:

"لا غالب إلا الله"

فجأة بكيل اللعنات، يبصق، يرفع دراجته فوق رأسه، ويهوى بها إلى الأرض.

يجلس متهالكاً مرة أخرى، يهدأ قليلاً، بهز رأسه قائلاً:

" تيوس "

(12)

صورة أخيرة :

تسدل الستارة.

صمت.

الجمهور ينسحب في صمت !!



اکتوبر 1987




92


__________________________________________________


14 views0 comments

Recent Posts

See All

Comments


Post: Blog2 Post
bottom of page